الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ؛ فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ» [صححه الألباني ].
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ يُبَيِّنُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلاَمَةً مِنْ عَلاَمَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ الصُّغْرَى، وَهِيَ: تَقَارُبُ الزَّمَانِ؛ وَتَقَارُبُ الزَّمَانِ قَدْ يَكُونُ بِذَهَابِ بَرَكَةِ الْوَقْتِ، وَهَذَا قَدْ وَقَعَ مُنْذُ عَصْرٍ بَعِيدٍ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدْ وُجِدَ فِي زَمَانِنَا هَذَا؛ فَإِنَّنَا نَجِدُ مِنْ سُرْعَةِ مَرِّ الأَيَّامِ مَا لَمْ يَكُنْ نَجِدُهُ فِي الْعَصْرِ الَّذِي قَبْلَ عَصْرِنَا هَذَا.
وَمِنْ مَعَانِي تَقَارُبُ الزَّمَانِ: سُرْعَةُ الأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالأَعْوَامِ؛ فَمَا تُشْرِقُ شَمْسُ يَوْمٍ إِلاَّ وَتَغْرُبُ، وَلاَ يَهِلُّ شَهْرٌ إِلاَّ وَيُدْبِرُ، وَلاَ تَبْتَدِئُ سَنَةٌ إِلاَّ وَتَنْقَضِي سَرِيعًا، وَقَدْ نُزِعَتِ الْبَرَكَةُ مِنَ الأَوْقَاتِ وَالأَرْزَاقِ وَالأَعْمَارِ.
وَهَذِهِ الْعَلاَمَةُ مِنْ عَلاَمَاتِ السَّاعَةِ مِنْ أَوْضَحِ الْعَلاَمَاتِ وَأَظْهَرِهَا الْيَوْمَ؛ إِذْ إِنَّنَا نَشْهَدُ وُقُوعَهَا الْيَوْمَ وَنَرَاهَا وَاضِحَةً جَلِيَّةً؛ فَالْوَقْتُ يَمُرُّ عَلَى النَّاسِ بِصُورَةٍ سَريعَةٍ تَدْعُو لِلدَّهْشَةِ وَالتَّأَمُّلِ، فَلاَ بَرَكَةَ فِي الْوَقْت؛ حَتَّى يُخَيَّلَ إِلَى الْوَاحِدِ أَنَّ السَّنَةَ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرَ كَالأُسْبُوعِ، وَالأُسْبُوعَ كَالْيَوْمِ، وَالسَّاعَةَ كَوَقْتِ احْتِرَاقِ خُوصَةِ النَّخْلِ ؛ وَحَدِيثُ كِبَارِ السِّنِّ فِي مَجَالِسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْجِزُونَ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ أَعْمَالاً كَثِيرَةً يَعْجَزُونَ الْيَوْمَ عَنْ إِنْجَازِهَا فِي أُسْبُوعٍ كَامِلٍ، وَكَانَتْ أَرْزَاقُ النَّاسِ قَلِيلَةً جِدًّا وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تَكْفِيهِمْ، وَيَتَصَدَّقُونَ مِنْهَا وَيَدَّخِرُونَ، فَلَمَّا اتَّسَعَتْ أَرْزَاقُهُمْ، وَتَهَيَّأَتْ لَهُمْ سُبُلُ الْمُوَاصَلاَتِ وَالاِتِّصَالاَتِ، وَتَتَابَعَتِ النِّعَمُ عَلَيْهِمْ حَتَّى نُزِعَتِ الْبَرَكَةُ مِنْ أَوْقَاتِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
وَفِي سُرْعَةِ مُرُورِ الأَيَّامِ مَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى وَدَرْسٌ وَعِبْرَةٌ ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ ق: 37 ].
فَكُلَّمَا زَادَتْ أَيَّامُكَ -أَيُّهَا الإِنْسَانُ- نَقَصَ عُمْرُكَ، وَقَلَّتَ فُرْصَتُكَ فِي الْحَيَاةِ؛ بَلْ قَرُبَ أَجَلُكَ، وَحَانَ رَحِيلُكَ، وَهَكَذَا عُمْرِي وَعُمْرُكَ أَخِي: مَجْمُوعَةُ أَيَّامٍ، وَمَجْمُوعَةُ لَيَالٍ، كُلَّمَا مَضَى يَوْمٌ أَوِ انْقَضَتْ لَيْلَةٌ كُلَّمَا نَقَصَتْ أَعْمَارُنَا، وَكُلَّمَا نَقَصَ رَصِيدُ أَيَّامِنَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ الرَّصِيدُ، ثُمَّ نُغَادِرَ هَذِهِ الدُّنْيَا؛ فَالْعَاقِلُ مَنْ وَعَظَتْهُ الأَيَّامُ، وَعَلَّمَتْهُ الدُّهُورُ وَالأَعْوَامُ، وَاسْتَفَادَ مِنْ أَمْسِهِ لِيَوْمِهِ، وَمِنْ يَوْمِهِ لِغَدِهِ.
وَكَمَا قَالَ الأَوَّلُ:
إِنَّا لَنَفْرَحُ بِالأَيَّامِ نَقْطَعُهَا



وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الأَجَلِ


فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ الْمَوْتِ مُجْتَهِدًا



فَإِنَّمَا الرِّبْحُ وَالْخُسْرانُ فِي العَمَلِ




عَامٌ قَدْ رَحَلَ؛ مُخَلِّفًا فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الذِّكْرَى وَالْمَوَاعِظِ أَنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ قَرَارٍ ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحياةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الاخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ﴾ [غافر:39].
عَامٌ رَحَلَ قَدْ ذَهَبَتْ أَفْرَاحُهُ وَأَحْزَانُهُ، وَآمَالُهُ وَآلاَمُهُ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلاَّ مَا أَوْدَعَهُ الْعِبَادُ مِنْ أَعْمَالٍ، وَسَيَرَى كُلُّ عَامِلٍ عَمَلَهُ، ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ﴾ [آل عمران: 30].
فَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَافْتَتِحُوا عَامَكُمُ الْجَدِيدَ بِتَجْدِيدِ التَّوْبَةِ وَالإِقْبَالِ عَلَى الطَّاعَةِ بِأَنْوَاعِهَا؛ لاَ سِيَّمَا وَأَنْتُمْ فِي شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي قَالَ عَنْهُ رَسُولُنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ: شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ».
اللَّهُمَّ اخْتِمْ لَنَا بِخَيْرٍ، وَاجْعَلْ عَوَاقِبَ أُمُورِنَا إِلَى خَيْرٍ، وَوَفِّقْنَا يَا رَبِّ لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لِرَجُلٍ:
كَمْ أَتَتْ عَلَيْكَ؟ قَالَ: سِتُّونَ سَنَةً. قَالَ: فَأَنْتَ مُنْذُ سِتِّينَ سَنةً تَسِيرُ إِلَى رَبِّكَ، يُوشِكُ أَنْ تَبْلُغَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّا للهِ وَإنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. فَقَالَ الْفُضَيْلُ: أَتَعْرِفُ تَفْسِيرَهُ؟ تَقُولُ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ؟ فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ للهِ عَبْدٌ، وَأَنَّهُ إِلَيْهِ رَاجِعٌ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مَسْؤُولٌ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَسْؤُولٌ، فَلْيُعِدَّ لِلسُّؤَالِ جَوَابًا. قَالَ الرَّجُلُ: فَمَا الْحِيلَةُ؟ قَالَ: يَسِيرَةٌ. قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: تُحْسِنُ فِيمَا بَقِيَ يُغْفَرُ لَكَ مَا مَضَى؛ فَإِنَّكَ إِنْ أَسَأْتَ فِيمَا بَقِيَ، أُخِذْتَ بِمَا مَضَى وَبِمَا بَقِيَ.
فَالْعاقِلُ -عِبَادَ اللهِ- مَنِ اتَّعَظَ بِمُرُورِ أَيَّامِهِ وَأَعْوَامِهِ، فَتَابَ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ وَخَالِقِهِ، مُغْتَنِمًا لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَصِحَّتَهُ وَفَرَاغَهُ فِيمَا يَنْفَعُهُ فِي دُنْيَاهُ وَفِي أُخْرَاهُ؛ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ يَعِظُهُ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَياتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» [صَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ].
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» رَوَاهُ مُسْلِم.