راديو مسجل تلفزيون سينما

في مدرسة المعتصم الابتدائية شاهدت أول فيلم سينمائي في حياتي، لم تكن هناك سينما طبعا، والفيلم لم يكن من ضمن المقررات، لكن بعض الأساتذة اجتمعوا في المرسم على ما أظن وأجلسوا فصلنا كاملا ثانية/ ب ووضعوا قطعة بيضاء من القماش ثبتوها بقوة ثم أداروا الجهاز العجيب، الذي أخرج ضوءا دائريا واتجه إلى قطعة القماش.
كان الفيلم ويا للعجب ليوسف شاهين أكثر من عشقت من مخرجي السينما العربية في ما بعد، وكان اسم الفيلم 'جميلة بوحريد'، عرفت ذلك بعد سنين طويلة، فكل ما بقي في الذاكرة الضوء والجهاز العجيب وقطعة القماش و' أحمد مظهر' و'رشدي أباظة' الذي كان يعذب 'فاتن حمامة' في ما بعد عرفت أن البطلة ليست 'فاتن حمامة' ولكنها 'ماجدة '.
عثرت على الفيلم بالمصادفة في أحد محال الفيديو في الرياض سنة 1988، لكنني تذكرته سريعا بعد خمس دقائق فقط من عرضه رغم مرور كل هذه السنين على أول وآخر مشاهدة سابقة له عام 1973 في مدرسة المعتصم، أما كيف كنت أعرف أسماء الممثلين، فذلك لأننا انتقلنا مع خالي (أبوصبار) إلى الشعبيات القديمة.
كان خالي مستحقا لمنزل حسب القانون وقدم طلبا يفيد بأنه يرعى أخته الأرملة وأبناءها الصغار الأيتام، وكانت الحكومة كريمة وعطوفة، فقدمت له بيتا ثانيا ملاصقا للبيت الأول وتم فتح باب في الجدار الفاصل وأصبح لدينا بيت كبير واحد، وفيه تلفزيون ماركة 'شارب' يعمل بالبطارية، ذلك لأننا سكنا البيوت قبل دخول الكهرباء إليها، وإذا انخفضت البطارية وكلما قاربت على الانتهاء كانت الصورة تصغر في مربع يتصاغر شيئا فشيئا حتى يصبح نقطة ثم ينطفئ كأنه الأرض تنقص من أطرافها، وبسرعة حفظنا نحن الأطفال أسماء الممثلين وأشكالهم وأحببنا فريد شوقي وعادل إمام وفاتن حمامة وشكري سرحان ورشدي أباظة وأحمد مظهر وسعاد حسني وحسن يوسف واسماعيل ياسين وأرعبنا محمود المليجي.
لم يكن تلفزيوننا هذا أول تلفزيون أشاهده في حياتي ففي العشيش التي ظلت قائمة حتى ذلك الوقت وأكثر قليلا حيث لم تنته تماما قبل بناء 'الشعبيات الجديدة ' كان هناك تلفزيونان في بيوت جماعتنا وكان جميع الصغار يجتمعون كل ليلة في بيت قوم عطا الله: أبو محمد أحد أكرم الناس وأطيبهم قلبا وأشدهم حلما ورأفة وكنا نشاهد مسلسل 'الشاطر حسن' بطولة الفنان أحمد مساعد وعبد الرحمن العقل الذي لا أزال حتى اليوم أخطئ في اسمه وأسميه 'خالد' كما هو اسمه في المسلسل والمرحوم على المفيدي الذي كان يقوم بدور 'شبروح' وكان هذا هو اسمه عندنا أيضا إلى أن حققت في ما بعد شخصية 'قحطا' في 'درب الزلق' نجاحها الساحق وقد صارت جملته الشهيرة: 'حرّك برّك أوقف مكانك لا تحرّك' لعبة جميلة نلعبها دائما، فما إن يقولها أحدنا حتى نتوقف عن الحركة ونثبت كتماثيل الشمع إلى أن يأتي 'الشاطر حسن' ويفك السحر عنا (كيف كان الناس يستحملون كل هذا العدد من الصغار بمحبة وكرم ودون ضجر لا أعرف!) وعلى هذه التلفزيونات عرفنا 'فارس و نجود'، كانت 'سميرة توفيق' جميلة لدرجة تسمح للأولاد الصغار أن يكبروا بسرعة و كان 'محمود سعيد' فارسا بكل معنى الكلمة ومن على هذا التلفزيون تحديدا وقبل حتى أن أدخل المدرسة جئت لوالدتي حافظا أول أغنية سمعتها لأم كلثوم 'هو صحيح... صحيح... الهوى غلاب... ما اعرفش انا' وهو كل ما حفظته من الأغنية ومن المؤسف أنني لم أحب أم كلثوم إلا بعد سن الأربعين وأتذكر أنني شاهدت على تلفزيوننا فيلم 'عنتر وعبلة ' وعندما أخبرني شقيقي حسن أن ما أشاهده ليس حقيقيا وأن هذا ممثل اسمه 'سراج منير' وأن عبلة ليست سوى ممثلة اسمها كوكا غضبت وأظنني بكيت، كما أحببنا الرسوم المتحركة 'باباي' تحديدا وبرنامج 'ماما أنيسة' كل جمعة لكنني لم أكن أعرف السينما بعد وكانت المعتصم بداية تعرفي على الآلة السينمائية وجهاز نقل الصور الضوئي في هذا الوقت.
كانت سينما الجهرا تبنى أو ربما انتهى بناؤها، لكنها لم تفتتح بعد لا أدري، الأكيد أنني دخلتها أول مرة وأنا في الثامنة أو التاسعة من العمر، وكان أول فيلم أشاهده فيها هو'بعت حياتي' لفريد شوقي وقد خرجت منها مبهورا وغير مصدق، ومفتونا بالمسرح والشاشة الكبيرة والإظلام وحفر الضوء الدائري المرسل مثل رمح من الغبار الدافئ من خلفنا جميعا إلى حيث الشاشة البيضاء الضخمة حيث يتحرك هناك كل شيء، وتنبثق الموسيقى ومازلت حتى يومنا هذا كلما سمعت صوت 'فايزة أحمد' أو 'وردة الجزائرية' تذكرت تلك اللحظات الرائعة المليئة بالشغف قبل فتح الستار حيث كانت السينما تشغل أغنياتهما بكثرة وبصوت خفيض إلى أن تطفئ الأضواء.
أما ما قبل التلفزيون والسينما فقد كان هناك المسجل، ماركة 'فيلبس'، والراديو، ومن المسجل، عرفت 'حجاب بن نحيت' وكانت من أوائل محفوظاتي: 'عودي عليّ بسرعةٍ تسبق البرق... عودي ترا الفرقا تهدّد حياتي'، و من الراديو عرفت فيروز، جاءت المعرفة مبكرة جدا، وكان هذا من حسن حظي، دون شك، حتى أنه يمكنني القول، إنني تعلمت الكلام، و الغناء، في الوقت نفسه تقريبا.
من قصيدة 'أحيان':

واحيـان احــس النـفـل بعـضـي، يـمـر الغـنـا:
راعـي غنـم، يحطـب مـن ضلـوعـي البـايـده
واحـيان احـس ان انـا ويـّا الهـبـوب تـْنَـنـَا
للغـصن نـلبـس ثـيــاب الـصـبـح ونـعـايـده
واحيان... واحيان احس ان الظِّبا بي هنا
والـيــا تـحـرّكـت اخـاف اذيـّـر الـقـايــده
واحـيـان اوقـّـف عـدوّي واسـألـه ايـّنـا
بـــنـــا أنــا؟ وايـّـنــي بــك جــمــرةٍ قــايده؟
في صوت 'فيروز' انا الصفصاف والميجنا
وانــا مــع 'حـجـاب' شــرق وطـايــره عـايــده
كلّـي مـن احـيـان، مــن أشـيـا بسيـطـه بـنـا
تـمُــرّ فـي صـمـت واسـتـسـلام ومْـحَـايــده
أحــرث مــن الـدّاخـل اقصـاهـا هـَدَام وبـنــا
لـغـايـة الأرض مـا تـصـبـح بـنــا مـايـده
وانا اكتـب الشعـر لـي، أو لـي ولـك، أو لنـا
كـــــذا بـــلا آيـدلـوجــيـات ومْــزايــده
الشاعـر اللـي مـن الخـارج عــذاب وضـنـا
فـي داخــلـه هـمـّـت المـتـمـنــّعـه رايــده
الـشاعـر الـلـي مـثـل شـمـعٍ نـحـيـلٍ فَـنــا
حقيقـتـه: شـمـس تسترخي عـلــى الـمـايـده